الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
فإذا تبين ذلك، فوجوب إثبات العلو للّه ـ تعالى ـ ونحوه، يتبين من وجوه: أحدها: أن يقال: إن القرآن والسنن المستفيضة المتواترة وغير المتواترة وكلام السابقين والتابعين، وسائر القرون الثلاثة ـ مملوء بما فيه إثبات العلو للَّه ـ تعالى ـ على عرشه بأنواع من الدلالات، ووجوه من الصفات، وأصناف من العبارات، تارة يخبر أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام، ثم استوى على العرش. وقد ذكر الاستواء على العرش في سبعة مواضع. وتارة يخبر بعروج الأشياء وصعودها، وارتفاعها إليه، كقوله تعالى: / وتارة يخبر بأنه العلى الأعلى، كقوله تعالى: وتارة يخبر بأنه في السماء كقوله تعالى: فذكر السماء دون الأرض، ولم يعلق بذلك ألوهية أو غيرها، كما ذكر في قوله تعالى: وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء؟)، وقال للجارية: (أين اللَّه) ؟ قالت: في السماء. قال: (أعتقها فإنها مؤمنة). وتارة يجعل بعض الخلق عنده دون بعض، كقوله تعالى: وأما الأحاديث والآثار عن الصحابة والتابعين، فلا يحصيها إلا اللَّه ـ تعالى. فلا يخلو، إما أن يكون ما اشتركت فيه هذه النصوص من إثبات علو اللَّه نفسه على خلقه هو الحق، أو الحق نقيضه؛ إذ الحق لا يخرج عن النقيضين، وإما أن يكون نفسه فوق الخلق، أو لا يكون فوق الخلق ـ كما تقول الجهمية . ثم تارة يقولون: لا فوقهم ولا فيهم، ولا داخل العالم، ولا خارجه، ولا مباين، ولا محايث. وتارة يقولون: هو بذاته في كل مكان، وفي المقالتين كلتيهما يدفعون أن يكون هو نفسه فوق خلقه. فإما أن يكون الحق إثبات ذلك، أو نفيه، فإن كان نفي ذلك هو الحق، فمعلوم أن القرآن لم يبين هذا قط ـ لا نصًا ولا ظاهرًا ـ ولا الرسول، ولا أحد من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين؛ لا أئمة المذاهب الأربعة، ولا غيرهم، ولا يمكن أحد أن ينقل عن واحد من هؤلاء أنه نفي ذلك أو أخبر به. وأما ما نقل من الإثبات عن هؤلاء، فأكثر من أن يحصى أو يحصر، / فإن كان الحق هو النفي ـ دون الإثبات ـ والكتاب والسنة والإجماع إنما دل على الإثبات ولم يذكر النفي أصلًا ـ لزم أن يكون الرسول والمؤمنون لم ينطقوا بالحق في هذا الباب، بل نطقوا بما يدل ـ إما نصًا وإما ظاهرًا ـ على الضلال والخطأ المناقض للهدى والصواب. ومعلوم أن من اعتقد هذا في الرسول والمؤمنين، فله أوفر حظ من قوله تعالى: فإن القائل إذا قال: هذه النصوص أريد بها خلاف ما يفهم منها، أو خلاف ما دلت عليه، أو أنه لم يرد إثبات علو اللَّه نفسه على خلقه، وإنما أريد بها علو المكانة ونحو ذلك، كما قد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع. فيقال له:فكان يجب أن يبين للناس الحق الذي يجب التصديق به باطنًا وظاهرًا، بل ويبين لهم ما يدلهم على أن هذا الكلام لم يرد به مفهومه ومقتضاه؛ فإن غاية ما يقدر أنه تكلم بالمجاز المخالف للحقيقة، والباطن المخالف للظاهر. ومعلوم باتفاق العقلاء أن المخاطب المبين إذا تكلم بمجاز، فلابد أن يقرن بخطابه ما يدل على إرادة المعنى المجازي؛ فإذا كان الرسول المبلغ المبين الذي بين للناس ما نزل إليهم، يعلم أن المراد بالكلام خلاف مفهومه ومقتضاه، كان /عليه أن يقرن بخطابه ما يصرف القلوب عن فهم المعنى الذي لم يرد، لا سيما إذا كان باطلًا لا يجوز اعتقاده في اللّه، فإن عليه أن ينهاهم عن أن يعتقدوا في اللَّه ما لا يجوز اعتقاده إذا كان ذلك مخوفًا عليهم، ولو لم يخاطبهم بما يدل على ذلك، فكيف إذا كان خطابه هوالذي يدلهم على ذلك الاعتقاد الذي تقول النفاة: هو اعتقاد باطل ؟ فإذا لم يكن في الكتاب، ولا السنة، ولا كلام أحد من السلف والأئمة ما يوافق قول النفاة أصلًا، بل هم دائمًا لا يتكلمون إلا بالإثبات، امتنع حينئذ ألا يكون مرادهم الإثبات، وأن يكون النفي هو الذي يعتقدونه ويعتمدونه، وهم لم يتكلموا به قط ولم يظهروه، وإنما أظهروا ما يخالفه وينافيه، وهذا كلام مبين، لا مخلص لأحد عنه، لكن للجهمية المتكلمة هنا كلام، وللجهمية المتفلسفة كلام. أما المتفلسفة، والقرامطة فيقولون: إن الرسل كلموا الخلق بخلاف ما هو الحق، وأظهروا لهم خلاف ما يبطنون، وربما يقولون: إنهم كذبوا لأجل مصلحة العامة، فإن مصلحة العامة لا تقوم إلا بإظهار الإثبات، وإن كان في نفس الأمر باطلًا. وهذا مع ما فيه من الزندقة البينة، والكفر الواضح، قول متناقض في نفسه، فإنه يقال: لو كان الأمر كما تقولون، والرسل من جنس رؤسائكم، /لكان خواص الرسل يطلعون على ذلك، ولكانوا يطلعون خواصهم على هذا الأمر، فكان يكون النفي مذهب خاصة الأمة، وأكملها عقلا وعلمًا ومعرفة، والأمر بالعكس؛فإن من تأمل كلام [السلف والأئمة] وجد أعلم الأمةـ عند الأمة ـ كأبي بكر وعمر، وعثمان، وعلى، وابن مسعود ومعاذ بن جبل، وعبد اللَّه بن سلام، وسلمان الفارسي، وأبي بن كعب، وأبي الدرداء، وعبد اللَّه بن عباس، وعبد اللَّه بن عمر، وعبد اللّه بن عمرو وأمثالهم، هم أعظم الخلق إثباتًا. وكذلك أفضل التابعين، مثل سعيد بن المسيب وأمثاله، والحسن البصري وأمثاله، وعلي ابن الحسين وأمثاله، وأصحاب ابن مسعود وأصحاب ابن عباس، وهم من أجل التابعين. بل النقول عن هؤلاء في الإثبات، يجبن عن إثباته كثير من الناس، وعلى ذلك تأول يحيى بن عمار وصاحبه شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري ما يروى: (إن من العلم كهيئة المكنون لا يعرفه إلا أهل العلم باللَّه، فإذا ذكروه لم ينكره إلا أهل الغِرَّة [أي: أهل الغفلة. انظر: المصباح المنير، مادة غرر] باللَّه) تأولوا ذلك على ما جاء من الإثبات؛ لأن ذلك ثابت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، والسابقين والتابعين لهم بإحسان، بخلاف النفي فإنه لا يوجد عنهم، ولا يمكن حمله عليه. وقد جمع علماء الحديث من المنقول عن السلف في الإثبات، ما لا يحصى/ عدده إلا رب السموات، ولم يقدر أحد أن يأتي عنهم في النفي بحرف واحد، إلا أن يكون من الأحاديث المختلقة، التي ينقلها من هو من أبعد الناس عن معرفة كلامهم. ومن هؤلاء من يتمسك بمجملات سمعها، بعضها كذب، وبعضها صدق، مثل ما ينقلونه عن عمر أنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبوبكر يتحدثان وكنت كالزنجي بينهما. فهذا كذب باتفاق أهل العلم بالأثر. وبتقدير صدقه فهو مجمل. فإذا قال أهل الإثبات كان ما يتكلمان فيه من هذا الباب لموافقته ما نقل عنهما، كان أولى من قول النفاة أنهما يتكلمان بالنفي. وكذلك حديث جراب أبي هريرة لما قال: حفظت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جرابين: أما أحدهما فبثثته فيكم، وأما الآخر فلو بثثته لقطعتم هذا البلعوم. فإن هذا حديث صحيح، لكنه مجمل. وقد جاء مفسرًا: أن الجراب الآخر كان فيه حديث الملاحم والفتن، ولو قدر أن فيه ما يتعلق بالصفات فليس فيه ما يدل على النفي، بل الثابت المحفوظ من أحاديث أبى هريرة كحديث [إتيانه يوم القيامة] وحديث [النزول] و[الضحك] وأمثال ذلك، كلها على الإثبات، ولم ينقل عن أبي هريرة حرف واحد من جنس قول النفاة. وأما الجهمية المتكلمة فيقولون: إن القرينة الصارفة لهم عما دل عليه الخطاب هوالعقل، فاكتفي بالدلالة العقلية الموافقة لمذهب النفاة. /فيقال لهم أولًا: فحينئذ إذا كان ما تكلم به إنما يفيدهم مجرد الضلال، وإنما يستفيدون الهدى من عقولهم، كان الرسول قد نصب لهم أسباب الضلال، ولم ينصب لهم أسباب الهدى، وأحالهم في الهدى على نفوسهم، فيلزم على قولهم أن تركهم في الجاهلية خير لهم من هذه الرسالة، التي لم تنفعهم، بل ضرتهم. ويقال لهم ثانيًا: فالرسول صلى الله عليه وسلم قد بين الإثبات الذي هو أظهر في العقل من قول النفاة؛ مثل ذكره لخلق اللّه وقدرته، ومشيئته وعلمه، ونحو ذلك ـ من الأمور التي تعلم بالعقل ـ أعظم مما يعلم نفي الجهمية، وهو لم يتكلم بما يناقض هذا الإثبات، فكيف يحيلهم على مجرد العقل في النفي الذي هو أخفي وأدق؟ وكلامه لم يدل عليه، بل دل على نقيضه وضده، ومن نسب هذا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فاللَّه حسيبه على ما يقول . والمراتب ثلاث إما أن يتكلم بالهدى، أوبالضلال، أو يسكت عنهما. ومعلوم أن السكوت عنهما خير من التكلم بما يضل، وهنا يعرف بالعقل أن الإثبات لم يسكت عنه؛ بل بَيَّنه، وكان ما جاء به السمع موافقًا للعقل، فكان الواجب فيما ينفيه العقل أن يتكلم فيه بالنفي؛كما فعل فيما يثبته العقل، وإذا لم يفعل ذلك كان السكوت عنه أسلم للأمة. أما إذا تكلم فيه بما يدل على الإثبات، وأراد منهم ألا يعتقدوا إلا النفي ؛لكون مجرد عقولهم تعرفهم به، فإضافة هذا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من أعظم أبواب الزندقة والنفاق. /ويقال لهم ثالثا: من الذي سلم لكم أن العقل يوافق مذهب النفاة، بل العقل الصريح إنما يوافق ما أثبته الرسول، وليس بين المعقول الصريح والمنقول الصحيح تناقض أصلًا، وقد بسطنا هذا في مواضع، بينا فيها أن مايذكرون من المعقول المخالف لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما هو جهل وضلال تقلده متأخروهم عن متقدميهم، وسموا ذلك عقليات، وإنما هي جهليات، ومن طلب منه تحقيق ماقاله أئمة الضلال بالمعقول لم يرجع إلا إلى مجرد تقليدهم. فهم يكفرون بالشرع ويخالفون العقل، تقليدًا لمن توهموا أنه عالم بالعقليات، وهم مع أئمتهم الضلال كقوم فرعون معه، حيث قال اللَّه تعالى: [الزخرف:45]، وقال تعالى عنه: ولهذا صرح محققو النفاة بأنهم على قوله، كما يصرح به الاتحادية من الجهمية النفاة؛ إذ هو أنكر العلو وكذب موسى فيه، وأنكر تكليم اللَّه لموسى، قال تعالى: /واللّه ـ تعالى ـ قد أخبر عن فرعون أنه أنكر الصانع بلسانه، فقال: ونبينا صلى الله عليه وسلم لما عرج به ليلة الإسراء، وجد في السماء الأولى آدم ـ عليه السلام ـ وفي الثانية يحيى وعيسى، ثم في الثالثة يوسف، ثم في الرابعة إدريس، ثم في الخامسة هارون، ثم وجد موسى وإبراهيم، ثم عرج إلى ربه ففرض عليه خمسين صلاة، ثم رجع إلى موسى فقال له: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فإن أمتك لا تطيق ذلك. قال: (فرجعت إلى ربي فسألته التخفيف لأمتي) وذكر أنه رجع إلى موسى، ثم رجع إلى ربه مرارًا، فصدق موسى في أن ربه فوق السموات، وفرعون كذب موسى في ذلك. والجهمية النفاة : موافقون لآل فرعون أئمة الضلال. وأهل السنة والأثبات: موافقون لآل إبراهيم أئمة الهدى، وقال تعالى: الوجه الثاني ـ في تبيين وجوب الإقرار بالإثبات، وعلو اللَّه على السموات أن ـ يقال: من المعلوم أن اللّه ـ تعالى ـ أكمل الدين، وأتم النعمة، وأن اللَّه أنزل الكتاب تبيانًا لكل شيء، وأن معرفة ما يستحقه اللَّه وما ينزه عنه هو من أجل أمور الدين، وأعظم أصوله، وأن بيان هذا وتفصيله أولى من كل شيء؛ فكيف يجوز أن يكون هذا الباب لم يبينه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يفصله، ولم يعلم أمته ما يقولون في هذا الباب ؟! وكيف يكون الدين قد كمل وقد تركوا على الطريقة البيضاء، وهم لا يدرون بماذا يعرفون ربهم: أبما تقوله النفاة، أو بأقوال أهل الإثبات؟! الوجه الثالث: أن يقال: كل من فيه أدنى محبة للعلم أو أدنى محبة للعبادة، لابد أن يخطر بقلبه هذا الباب، ويقصد فيه الحق، ومعرفة الخطأ من الصواب، فلا يتصور أن يكون الصحابة والتابعون كلهم كانوا معرضين عن هذا لا يسألون عنه، ولا يشتاقون إلى معرفته، ولا تطلب قلوبهم الحق، وهم ـ ليلًا ونهارًا ـ يتوجهون بقلوبهم إليه، ويدعونه تضرعًا وخيفة، ورَغَبًا ورهبًا، والقلوب مجبولة مفطورة على طلب العلم بهذا، ومعرفة الحق فيه، وهي مشتاقة إليه أكثر من شوقها إلى كثير من الأمور، ومع الإرادة الجازمة والقدرة يجب حصول/ المراد، وهم قادرون على سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم، وسؤال بعضهم بعضًا. وقد سألوه عما هو دون هذا؛ سألوه: هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فأجابهم، وسأله أبو رَزِين: أيضحك ربنا؟ فقال: (نعم). فقال: (لن نعدم من رب يضحك خيرًا). ثم إنهم لما سألوه عن [الرؤية] قال: (إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر) فشبه الرؤية بالرؤية، لا المرئي بالمرئي. والنفاة لا يقولون: يرى كما ترى الشمس والقمر، بل قولهم الحقيقي أنه لا يرى بحال، ومن قال: يرى، موافقة لأهل الإثبات ومنافقة لهم، فسَّر الرؤية بمزيد علم، فلا تكون كرؤية الشمس والقمر. والمقصود هنا أنهم لابد أن يسألوه عن ربهم الذي يعبدونه، وإذا سألوه فلابد أن يجيبهم. ومن المعلوم بالاضطرار أن ما تقوله الجهمية النفاة لم ينقل عن أحد من أهل التبليغ عنه، وإنما نقلوا عنه ما يوافق قول أهل الإثبات. الوجه الرابع: أن يقال: إما أن يكون اللَّه يحب منا أن نعتقد قول النفاة، أو نعتقد قول أهل الإثبات، أو لا نعتقد واحدًا منهما. فإن كان مطلوبه منا اعتقاد قول النفاة: وهو أنه لا داخل العالم ولا خارجه؛ وأنه ليس فوق/ السموات رب، ولا على العرش إله، وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يعرج به إلى اللَّه، وإنما عرج به إلى السموات فقط لا إلى اللَّه، وأن الملائكة لا تعرج إلى اللَّه بل إلى ملكوته، وأن اللَّه لا ينزل منه شيء ولا يصعد إليه شيء، وأمثال ذلك . وإن كانوا يعبرون عن ذلك بعبارات مبتدعة فيها إجمال وإبهام وإيهام، كقولهم ليس بمتحيز ولا جسم، ولا جوهر، ولا هو في جهة، ولا مكان، وأمثال هذه العبارات التي تفهم منها العامة تنزيه الرب ـ تعالى ـ عن النقائص، ومقصدهم بها أنه ليس فوق السموات رب؛ ولا على العرش إله يعبد ولا عرج بالرسول إلى اللّه. والمقصود: أنه إن كان الذي يحبه اللَّه لنا أن نعتقد هذا النفي، فالصحابة والتابعون أفضل منا، فقد كانوا يعتقدون هذا النفي، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يعتقده، وإذا كان اللّه ورسوله يرضاه لنا وهو إما واجب علينا أو مستحب لنا، فلابد أن يأمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بما هو واجب علينا، ويندبنا إلى ماهو مستحب لنا، ولابد أن يظهر عنه وعن المؤمنين ما فيه إثبات لمحبوب اللّه ومرضيه وما يقرب إليه، لاسيما مع قوله عز وجل: وإذا كان كذلك، كان من المعلوم أنه لابد أن يبينه الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد علم بالاضطرار أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يتكلموا بمذهب النفاة. فعلم أنه ليس بواجب ولا مستحب، بل علم أنه ليس من التوحيد الذي شرعه اللَّه ـ تعالى ـ لعباده. وإن كان يحب منا مذهب الإثبات، وهو الذي أمرنا به، فلابد ـ أيضًا ـ أن يبين ذلك لنا. ومعلوم أن في الكتاب والسنة من إثبات العلو والصفات أعظم مما فيهما من إثبات الوضوء والتيمم، والصيام، وتحريم ذوات المحارم، وخبيث المطاعم، ونحو ذلك من الشرائع. فعلى قول أهل الإثبات يكون الدين كاملًا، والرسول صلى الله عليه وسلم مبلغًا مبينًا، والتوحيد عن السلف مشهورًا معروفًا. والكتاب والسنة يصدق بعضه بعضًا؛والسلف خير هذه الأمة وطريقهم أفضل الطرق. والقرآن كله حق ليس فيه إضلال، ولا دل على كفر ومحال، بل هو الشفاء والهدى والنور. وهذه كلها لوازم ملتزمة ونتائج مقبولة، فقولهم مؤتلف غير مختلف، ومقبول غير مردود. /وإن كان الذي يحبه اللّه منا ألا نثبت ولا ننفي، بل نبقى في الجهل البسيط، وفي ظلمات بعضها فوق بعض، لا نعرف الحق من الباطل ولا الهدى من الضلال، ولا الصدق من الكذب، بل نقف بين المثبتة والنفاة موقف الشاكين الحيارى ومن المعلوم أن اللَّه لا يحب الجهل، ولا الشك، ولا الحيرة، ولا الضلال، وإنما يحب الدين والعلم واليقين. وقد ذم [الحيرة] بقوله تعالى: وقد أمرنا اللّه تعالى أن نقول: وفي صحيح مسلم وغيره عن عائشة ـ رضي اللَّه عنها ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم /كان إذا قام من الليل يصلي يقول: (اللّهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل؛ فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون. اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم). فهو صلى الله عليه وسلم يسأل ربه أن يهديه لما اختلف فيه من الحق، فكيف يكون محبوب اللّه عدم الهدى في مسائل الخلاف؟ وقد قال اللّه تعالى له: وما يذكره بعض الناس عنه أنه قال: [زدني فيك تحيرًا] كذب باتفاق أهل العلم بحديثه صلى الله عليه وسلم، بل هذا سؤال من هو حائر، وقد سأل المزيد من الحيرة، ولا يجوز لأحد أن يسأل ويدعو بمزيد الحيرة إذا كان حائرًا، بل يسأل الهدى والعلم، فكيف بمن هو هادي الخلق من الضلالة؟ وإنما ينقل مثل هذا عن بعض الشيوخ الذين لا يقتدى بهم في مثل هذا إن صح النقل عنه، وقول هؤلاء الواقفة الذين لا يثبتون ولا ينفون، وينكرون الجزم بأحد القولين، يلزم عليه أمور: أحدها: أن من قال هذا، فعليه أن ينكر على النفاة، فإنهم ابتدعوا ألفاظًا ومعاني لا أصل لها في الكتاب، ولا في السنة. وأما المثبتة إذا اقتصروا على النصوص، فليس له الإنكار عليهم، وهؤلاء / الواقفة هم في الباطن يوافقون النفاة أو يقرونهم، وإنما يعارضون المثبتة، فعلم أنهم أقروا أهل البدعة، وعادوا أهل السنة. الثاني: أن يقال: عدم العلم بمعاني القرآن والحديث ليس مما يحبه اللّه ورسوله، فهذا القول باطل. الثالث: أن يقال: الشك والحيرة ليست محمودة في نفسها باتفاق المسلمين. غاية ما في الباب أن من لم يكن عنده علم بالنفي ولا الإثبات يسكت. فأما من علم الحق بدليله الموافق لبيان رسوله ـ صلى اللّه تعالى عليه وسلم ـ فليس للواقف الشاك الحائر أن ينكر على هذا العالم الجازم المستبصر المتبع للرسول، العالم بالمنقول والمعقول. الرابع: أن يقال: السلف كلهم أنكروا على الجهمية النفاة، وقالوا بالإثبات وأفصحوا به، وكلامهم في الإثبات والإنكار على النفاة أكثر من أن يمكن إثباته في هذا المكان، وكلام الأئمة المشاهير ـ مثل مالك، والثوري، والأوزاعي، وأبي حنيفة، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وعبد الرحمن بن مهدي، ووَكِيع بن الجراح، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيد، وأئمة أصحاب مالك وأبي حنيفة، والشافعي وأحمد ـ موجود كثير لا يحصيه أحد. وجواب مالك في ذلك صريح في الإثبات، فإن السائل قال له: يا أبا عبد اللّه، وأما النفاة، فما يثبتون استواء حتى تجهل كيفيته، بل عند هذا القائل الشاك وأمثاله أن الاستواء مجهول، غير معلوم، وإذا كان الاستواء مجهولًا لم يحتج أن يقال: الكيف مجهول، لا سيما إذا كان الاستواء منتفيًا، فالمنتفي المعدوم لا كيفية له حتى يقال: هي مجهولة أو معلومة. وكلام مالك صريح في إثبات الاستواء، وأنه معلوم، وأن له كيفية، لكن تلك الكيفية مجهولة لنا لا نعلمها نحن. ولهذا بدع السائل الذي سأله عن هذه الكيفية، فإن السؤال إنما يكون عن أمر معلوم لنا، ونحن لا نعلم كيفية استوائه، وليس كل ما كان معلومًا وله كيفية تكون تلك الكيفية معلومة لنا، يبين ذلك أن المالكية وغير المالكية نقلوا عن مالك أنه قال: اللّه في السماء وعلمه في كل مكان، حتى ذكر ذلك مكي ـ خطيب قرطبةـ في [كتاب التفسير] الذي جمعه من كلام مالك، ونقله أبو عَمْرو الطلمنكي، وأبو عمر بن عبد البر، وابن أبي زيد في المختصر، وغير واحد، ونقله أيضًا عن مالك غير هؤلاء ممن لا يحصى عددهم: مثل أحمد بن حنبل، وابنه عبد اللّه، والأثرم، والخلال، والآجرى، وابن بطة، وطوائف /غير هؤلاء من المصنفين في السنة، ولو كان مالك من الواقفه أو النفاة لم ينقل هذا الإثبات. والقول الذي قاله مالك قاله قبله ربيعة بن أبي عبد الرحمن ـ شيخه ـ كما رواه عنه سفيان بن عيينة. وقال عبد العزيز بن عبد اللّه بن أبي سلمة الماجشون كلامًا طويلاً، يقرر مذهب الإثبات، ويرد على النفاة، قد ذكرناه في غير هذا الموضع. وكلام المالكية في ذم الجهمية النفاة مشهور في كتبهم، وكلام أئمة المالكية وقدمائهم في الإثبات كثير مشهور، حتى علماءهم حكوا إجماع أهل السنة والجماعة على أن اللّه بذاته فوق عرشه. وابن أبي زيد إنما ذكر ما ذكره سائر أئمة السلف، ولم يكن من أئمة المالكية من خالف ابن أبى زيد في هذا. وهو إنما ذكر هذا في مقدمة الرسالة لتلقن لجميع المسلمين؛ لأنه عند أئمة السنة من الاعتقادات التي يلقنها كل أحد. ولم يرد على ابن أبى زيد في هذا إلا من كان من أتباع الجهمية النفاة، لم يعتمد من خالفه على أنه بدعة، ولا أنه مخالف للكتاب والسنة، ولكن زعم من خالف ابن أبي زيد وأمثاله إن ما قاله مخالف للعقل. وقالوا: إن ابن أبي زيد لم يكن يحسن فن الكلام الذي يعرف فيه ما يجوز على اللّه ـ عز وجل ـ وما لا يجوز. /والذين أنكروا على ابن أبي زيد وأمثاله من المتأخرين تلقوا هذا الإنكار عن متأخري الأشعرية ـ كأبي المعالي وأتباعه ـ وهؤلاء تلقوا هذا الإنكار عن الأصول التي شاركوا فيها المعتزلة ونحوهم من الجهمية، فالجهمية ـ من المعتزلة وغيرهم ـ هم أصل هذا الإنكار. وسلف الأمة وأئمتها متفقون على الإثبات، رادون على الواقفة والنفاة، مثل ما رواه البيهقي وغيره عن الأوزاعي قال: كنا ـ والتابعون متوافرون ـ نقول: إن اللّه فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته. وقال أبو مطيع البلخي في كتاب [الفقه الأكبر] المشهور: سألت أبا حنيفة عمن يقول: لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض. قال: قد كفر؛ لأن اللّه ـ عز وجل ـ يقول: وقال عبد اللّه بن نافع: كان مالك بن أنس يقول: اللّه في السماء، وعلمه في كل مكان. وقال مَعْدَان: سألت سفيان الثورى عن قوله تعالى: وقال حماد بن زيد فيما ثبت عنه من غير وجه ـ رواه ابن أبي حاتم والبخاري /وعبد اللّه بن أحمد وغيرهم ـ: إنما يدور كلام الجهمية على أن يقولوا: ليس في السماء شيء. وقال على بن الحسن بن شَقِيق: قلت لعبد اللّه بن المبارك: بماذا نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سمواته على عرشه، بائن من خلقه. قلت: بحَدّ؟ قال: بحد لا يعلمه غيره، وهذا مشهور عن ابن المبارك، ثابت عنه من غير وجه، وهو ـ أيضًا ـ صحيح ثابت عن أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وغير واحد من الأئمة. وقال رجل لعبد اللّه بن المبارك: يا أبا عبد الرحمن، قد خفت اللّه من كثرة ما أدعو على الجهمية. قال: لا تخف، فإنهم يزعمون أن إلهك الذي في السماء ليس بشيء. وقال جرير بن عبد الحميد: كلام الجهمية أوله شَهْد وآخره سُم، وإنما يحاولون أن يقولوا: ليس في السماء إله. رواه ابن أبي حاتم. ورواه هو وغيره بأسانيد ثابتة عن عبدالرحمن بن مهدي، قال: إن الجهمية أرادوا أن ينفوا أن يكون اللّه ـ عز وجل ـ كلم موسى بن عمران، وأن يكون على العرش، أرى أن يستتابوا، فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم. وقال يزيد بن هارون: من زعم أن اللّه على العرش استوى، على خلاف ما يقر في قلوب العامة، فهو جهمي. وقال سعيد بن عامر الضبعي ـ وذكر عنده الجهمية ـ فقال: هم أشر قولًا من اليهود والنصاري، قد أجمع أهل الأديان مع المسلمين على أن اللّه على العرش، وقالوا هم: ليس عليه شيء. / وقال عباد بن العوام الواسطي: كلمت بشرًا المريسي وأصحابه، فرأيت آخر كلامهم ينتهي إلى أن يقولوا: ليس في السماء شيء، أرى واللّه ألا يناكحوا ولا يوارثوا. وهذا كثير في كلامهم. وهكذا ذكر أهل الكلام ـ الذين ينقلون مقالات الناس ـ مقالة ـ أهل السنة وأهل الحديث ـ كما ذكره أبو الحسن الأشعري في كتابه الذي صنفه في [اختلاف المصلين، ومقالات الإسلاميين]، فذكر فيه أقوال الخوارج والروافض والمعتزلة والمرجئة وغيرهم. ثم قال: ذكر [مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث]، وجملة قولهم: الإقرار باللّه ـ عز وجل ـ وملائكته، وكتبه ورسله، وبما جاء من عند اللّه، وبما رواه الثقات عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، لا يردون من ذلك شيئًا ـ إلى أن قال ـ: وأن اللّه على عرشه كما قال: وأقروا أن للّه علما كما قال: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء:166]، ويقرون أن اللّه يجىء يوم القيامة كما قال: قال الأشعري أيضًا في [مسألة الاستواء] قال أهل السنة وأصحاب الحديث: ليس بجسم، ولا يشبه الأشياء، وأنه على عرشه، كما قال: ولا نتقدم بين يدي اللّه ورسوله في القول، بل نقول: استوى بلا كيف، وأن له يدين بلا كيف كما قال تعالى: وإن اللّه ينزل إلى سماء الدنيا، كما جاء في الحديث. قال:وقالت المعتزلة: استوى على عرشه بمعنى استولى. وقال الأشعري ـ أيضًا ـ في كتابه [الإبانة في أصول الديانة] في [باب الاستواء]:إن قال قائل:ما تقولون في الاستواء؟ قيل:نقول له:إن اللّه مستو على عرشه كما قال: وقال حكاية عن فرعون: ورأينا المسلمين جميعًا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء؛ لأن اللّه مستوٍ على العرش الذي هو فوق السموات، فلولا أن اللّه على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش. وقد قال قائلون من المعتزلة، والجهمية والحرورية: إن معنى استوى: استولى وملك وقهر، وأن اللّه في كل مكان، وجحدوا أن يكون اللّه على عرشه كما قال أهل الحق، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة، فلو كان كما قالوا، كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة؛ لأن اللّه قادر على كل شيء، والأرض فاللّه قادر عليها وعلى الحشوش والأخلية، فلو كان مستويا على العرش بمعنى الاستيلاء، لجاز أن يقال: هو مستو على الأشياء كلها، ولما لم يجز عند أحد من المسلمين أن يقال: إن اللّه مستو على الأشياء كلها، وعلى الحشوش والأخلية، بطل أن يكون معنى الاستواء، على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها. وقد نقل هذا عن الأشعري غير واحد من أئمة أصحابه، كابن فُورَك والحافظ ابن عساكر في كتابه الذي جمعه في [تبيين كذب المفترى، فيما ينسب/ إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري]، وذكر اعتقاده الذي ذكره في أول [الإبانة] وقوله فيه: فإن قال قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة، والقدرية والجهمية، والحرورية، والرافضة، والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون. قيل له: قولنا الذي به نقول، وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكتاب اللّه ـ تعالى ـ وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما روى عن الصحابة والتابعين، وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان عليه أحمد بن حنبل ـ نضراللّه وجهه ـ قائلون، ولما خالف قوله مجانبون؛ لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان اللّه به الحق عند ظهور الضلال، وأوضح المنهاج به، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين، فرحمة اللّه عليه من إمام مقدم، وكبير مفهم، وعلى جميع أئمة المسلمين. وجملة قولنا: إنا نقر باللّه وملائكته، وكتبه ورسله، وما جاء من عند اللّه، وما رواه الثقات عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. وذكر ما تقدم وغيره من جمل كثيرة أوردت في غير هذا الموضع. وقال أبو بكر الآجري في [كتاب الشريعة] :الذي يذهب إليه أهل العلم:أن اللّه ـ تعالى ـ على عرشه فوق سمواته، وعلمه محيط بكل شيء، قد أحاط بجميع ما خلق في السموات العلى، وجميع ما في سبع أرضين، يرفع إليه أفعال العباد. فإن قال قائل: أي شيء معنى قوله: والقول الذي قاله الشيخ محمد بن أبي زيد [وإنه فوق عرشه المجيد بذاته، وهو في كل مكان بعلمه] قد تأوله بعض المبطلين بأن رفع المجيد. ومراده أن اللّه هو المجيد بذاته، وهذا مع أنه جهل واضح، فإنه بمنزلة أن يقال: الرحمن بذاته، والرحيم بذاته، والعزيز بذاته. وقد قال ابن أبي زيد: في خطبة [الرسالة] أيضًا:على العرش استوى، وعلى الملك احتوى ، ففرق بين الاستواء والاستيلاء على قاعدة الأئمة المتبوعين، ومع هذا فقد صرح ابن أبى زيد في [المختصر] بأن اللّه في سمائه دون أرضه، هذا لفظه، والذي قاله ابن أبي زيد ما زالت تقوله أئمة أهل السنة من جميع الطوائف. وقد ذكر أبو عمرو الطلمنكي الإمام في كتابه الذي سماه [الوصول إلى معرفة الأصول]: إن أهل السنة والجماعة متفقون على أن اللّه استوى بذاته على عرشه. وكذلك ذكره محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حافظ الكوفة في طبقة البخاري ونحوه، ذكر ذلك عن أهل السنة و الجماعة. / وكذلك ذكره يحيى بن عمار السجستاني الإمام، في رسالته المشهورة في السنة التي كتبها إلى ملك بلاده. وكذلك ذكر أبو نصر السجزي الحافظ في كتاب [الإبانة] له. قال: وأئمتنا كالثوري، ومالك، وابن عيينة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وابن المبارك، وفضيل بن عياض، وأحمد، وإسحاق، متفقون على أن اللّه فوق العرش بذاته، وأن علمه بكل مكان، وكذلك ذكر شيخ الإسلام الأنصاري، وأبو العباس الطرقي، والشيخ عبد القادر الجيلي، ومن لا يحصى عدده إلا اللّه من أئمة الإسلام وشيوخه. وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني ـ صاحب [حلية الأولياء] وغير ذلك من المصنفات المشهورة في الاعتقاد الذي جمعه ـ: طريقنا طريق السلف المتبعين الكتاب والسنة وإجماع الأمة. قال: ومما اعتقدوه: أن اللّه لم يزل كاملًا بجميع صفاته القديمة لا يزول ولا يحول، لم يزل عالمًا بعلم، بصيرًا ببصر، سميعًا بسمع، متكلمًا بكلام، وأحدث الأشياء من غير شيء، وأن القرآن كلام اللّه، وكذلك سائر كتبه المنزلة كلامه غير مخلوق، وأن القرآن من جميع الجهات مقروءًا ومتلوا، ومحفوظًا ومسموعًا، ومكتوبًا، وملفوظا، كلام اللّه حقيقة لا حكاية ولا ترجمة، وأنه بألفاظنا كلام اللّه غير مخلوق، وأن الواقفة واللفظية من الجهمية، وأن من قصد القرآن بوجه من الوجوه يريد به خلق كلام اللّه، فهو عندهم من الجهمية، وأن الجهمي عندهم كافر. وذكر أشياء إلى أن قال: /وإن الأحاديث التي ثبتت عن النبى صلى الله عليه وسلم في [العرش واستواء اللّه عليه] يقولون بها ويثبتونها، من غير تكييف، ولا تمثيل، وأن اللّه بائن من خلقه، والخلق بائنون منه، لا يحل فيهم ولا يمتزج بهم، وهو مستوٍ على عرشه في سمائه دون أرضه. وذكر سائر اعتقاد السلف وإجماعهم على ذلك. وقال يحيى بن عثمان[هو أبو زكريا يحيى بن عثمان بن صالح بن صفوان السهمي المصري، العلامة الحافظ الإخباري، كان عالمًا بأخبار مصر وبموت العلماء، مات في ذي القعدة سنة 282هـ]. في [رسالته]: لا نقول كما قالت الجهمية: إنه بداخل الأمكنة، وممازج كل شيء، ولا نعلم أين هو، بل نقول: هو بذاته على عرشه، وعلمه محيط بكل شيء، وسمعه وبصره وقدرته مدركة لكل شيء، وهو معنى قوله: وقال الشيخ العارف معمر بن أحمد ـ شيخ الصوفية في هذا العصرـ: أحببت أن أوصى أصحابي بوصية من السنة، وأجمع ما كان عليه أهل الحديث وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين والمتأخرين. فذكر أشياء من الوصية إلى أن قال فيها: وإن اللّه استوى على عرشه بلا كيف ولا تأويل، والاستواء معلوم، والكيف مجهول؛وأنه مستو على عرشه، بائن من خلقه، والخلق بائنون منه، بلا حلول ولا ممازجة ولا ملاصقة، وأنه ـ عز وجل ـ سميع، بصير، عليم، خبير، يتكلم، ويرضى، ويسخط، ويضحك، ويعجب، ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكا، وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء، بلا كيف ولا تأويل، ومن أنكر النزول، أو تأول، فهو مبتدع ضال. / وقال الإمام أبوعثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني النيسابوري في كتاب [الرسالة في السنة] له: ويعتقد أصحاب الحديث ويشهدون أن اللّه فوق سبع سمواته على عرشه، كما نطق به كتابه، وعلماء الأمة وأعيان سلف الأمة، لم يختلفوا أن اللّه ـ تعالى ـ على عرشه، وعرشه فوق سمواته. قال: وإمامنا أبو عبد اللّه الشافعي احتج في كتابه [المبسوط] في مسألة إعتاق الرقبة المؤمنة في الكفارة، وإن الرقبة الكافرة لا يصح التكفير بها، بخبر معاوية بن الحكم، وأنه أراد أن يعتق الجارية السوداء عن الكفارة، وسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن إعتاقه إياها، فامتحنها ليعرف أنها مؤمنة أم لا ! فقال لها: (أين ربك)؟ فأشارت إلى السماء، فقال: (أعتقها فإنها مؤمنة)، فحكم بإيمانها لما أقرت أن ربها في السماء، وعرفت ربها بصفة العلو والفوقية. وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: باب القول في الاستواء: قال اللّه تعالى: [النحل:50]، [ الملك: 16] وأراد من فوق السماء؛ كما قال: وقال أبو عمر بن عبد البر في [شرح الموطأ] ـ لما تكلم على حديث النزول ـ قال: هذا حديث لم يختلف أهل الحديث في صحته، وفيه دليل أن اللّه في السماء على العرش من فوق سبع سموات، كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة ـ قال: وهذا أشهر عند الخاصة والعامة، وأعرف من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته؛ لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد، ولا أنكره عليهم مسلم. وقال أبو عمر ـ أيضًا ـ: أجمع علماء الصحابة والتابعين، الذين حمل عنهم التأويل، قالوا في تأويل قوله: فهذا ما تلقاه الخلف عن السلف؛ إذ لم ينقل عنهم غير ذلك؛ إذ هو الحق الظاهر الذي دلت عليه الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، فنسأل اللّه العظيم أن يختم لنا بخير ولسائر المسلمين، وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، بمنه وكرمه، إنه أرحم الراحمين، والحمد للّه وحده. / سئل شيخ الإسلام ـ ركن الشريعة أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية ـ قدس اللّه روحه ونور ضريحه ـ عن قول اللّه عز وجل: فأجاب: الحمد اللّه رب العالمين، القول في الاستواء والنزول كالقول في سائر الصفات، التي وصف اللّه بها نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإن اللّه ـ تعالى ـ سمى نفسه بأسماء، ووصف نفسه بصفات. سمى نفسه حيّا، عليمًا، حكيمًا، قديرًا، سميعًا، بصيرًا، غفورًا، رحيمًا، إلى سائر أسمائه الحسنى. قال اللّه تعالى: وقال عن ملائكته: ومذهب سلف الأمة وأئمتها أن يوصف اللّه بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل. فلا يجوز نفي صفات اللّه ـ تعالى ـ التي وصف بها نفسه، ولا يجوز تمثيلها بصفات المخلوقين، بل هو سبحانه / وقال نعيم بن حماد الخزاعي: من شبه اللّه بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف اللّه به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف اللّه به نفسه ورسوله تشبيهًا. ومذهب السلف بين مذهبين، وهدى بين ضلالتين: إثبات الصفات ونفي مماثلة المخلوقات، فقوله تعالى: وقد اتفق جميع أهل الإثبات على أن اللّه حي حقيقة، عليم حقيقة، قدير حقيقة، سميع حقيقة، بصير حقيقة، مريد حقيقة، متكلم حقيقة، حتى المعتزلة النفاة للصفات قالوا: إن اللّه متكلم حقيقة؛ كما قالوا ـ مع سائر المسلمين: إن اللّه عليم حقيقة، قدير حقيقة، بل ذهب طائفة منهم كأبي العباس الناشي إلى أن هذه الأسماء حقيقة للّه مجاز للخلق. وأما جمهور المعتزلة مع المتكلمة الصفاتيةـ من الأشعرية الكلابية، والكَرَّامية، والسالمية، وأتباع الأئمة الأربعة من الحنفية، والمالكية والشافعية والحنبلية، وأهل الحديث، والصوفية ـ فإنهم يقولون: إن هذه الأسماء حقيقة للخالق ـ سبحانه وتعالى ـ وإن كانت تطلق على خلقه حقيقة أيضًا. ويقولون: إن له علمًا حقيقة، وقدرة حقيقة، وسمعًا حقيقة، وبصرًا حقيقة. / وإنما ينكر أن تكون هذه الأسماء حقيقة النفاة من القرامطة الإسماعيلية الباطنية، ونحوهم من المتفلسفة الذين ينفون عن اللّه الأسماء الحسنى، ويقولون: ليس بحي ولا عالم ولا جاهل ، ولا قادر ولا عاجز، ولا موجود، ولا معدوم، فهؤلاء ومن ضاهاهم ينفون أن تكون له حقيقة! ثم يقول بعضهم: إن هذه الأسماء لبعض المخلوقات، وأنها ليست له حقيقة ولا مجازًا. وهؤلاء الذين يسميهم المسلمون الملاحدة؛ لأنهم ألحدوا في أسماء اللّه وآياته وقد قال اللّه تعالى: فإن أولئك المشركين إنما أنكروا اسم الرحمن فقط، وهم لا ينكرون أسماء اللّه وصفاته؛ ولهذا كانوا عند المسلمين أكفر من اليهود والنصارى. ولو كانت أسماء اللّه وصفاته مجازًا يصح نفيها عند الإطلاق، لكان يجوز أن اللّه ليس بحي، ولا عليم، ولا قدير ، ولا سميع، ولا بصير، ولا يحبهم ولا يحبونه، ولا استوى على العرش، ونحو ذلك. ومعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا يجوز إطلاق النفي على ما أثبته/ اللّه ـ تعالى ـ من الأسماء الحسنى والصفات، بل هذا جحد للخالق وتمثيل له بالمعدومات. وقد قال أبو عمر بن عبد البر: أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئًا من ذلك، ولا يحدون فيه صفة محصورة، وأما [أهل البدع] من الجهمية والمعتزلة والخوارج فينكرونها ولا يحملونها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقر بها مشبه، وهم عند من أقر بها نافون للمعبود لا مثبتون. والحق فيما قاله القائلون بما نطق به الكتاب والسنة، وهم أئمة الجماعة. وهذا الذي حكاه ابن عبد البر ـ عن المعتزلة ونحوهم ـ هو في بعض ما ينفونه من الصفات، وأما فيما يثبتونه من الأسماء والصفات كالحي والعليم والقدير والمتكلم فهم يقولون: إن ذلك حقيقة، ومن أنكر أن يكون شيء من هذه الأسماء والصفات حقيقة إنما أنكره لجهله مسمى الحقيقة، أو لكفره وتعطيله لما يستحقه رب العالمين، وذلك أنه قد يظن أن إطلاق ذلك يقتضى أن يكون المخلوق مماثلًا للخالق. فيقال له: هذا باطل؛ فإن اللّه موجود حقيقة، والعبد موجود حقيقة، وليس هذا مثل هذا، واللّه ـ تعالى ـ له ذات حقيقة، والعبد له ذات حقيقة، وليس ذاته كذوات المخلوقات. وكذلك له علم وسمع وبصر حقيقة، وللعبد علم وسمع وبصر حقيقة، وليس / علمه وسمعه وبصره مثل علم اللّه وسمعه وبصره، وللّه كلام حقيقة، وللعبد كلام حقيقة، وليس كلام الخالق مثل كلام المخلوقين. وللّه ـ تعالى ـ استواء على عرشه حقيقة، وللعبد استواء على الفلك حقيقة، وليس استواء الخالق كاستواء المخلوقين؛ فإن اللّه لا يفتقر إلى شيء ولا يحتاج إلى شيء، بل هو الغني عن كل شيء. واللّه ـ تعالى ـ يحمل العرش وحملته بقدرته، ويمسك السموات والأرض أن تزولا. فمن ظن أن قول الأئمة: إن اللّه مستو على عرشه حقيقة، يقتضي أن يكون استواؤه مثل استواء العبد على الفلك والأنعام، لزمه أن يكون قولهم: إن اللّه له علم حقيقة، وسمع حقيقة، وبصر حقيقة، وكلام حقيقة، يقتضي أن يكون علمه وسمعه وبصره وكلامه مثل المخلوقين وسمعهم وبصرهم وكلامهم.
وأما قول السائل: ما معنى كون ذلك حقيقة؟ فالحقيقة: هواللفظ المستعمل فيما وضع له، وقد يراد بها المعنى الموضوع للفظ الذي يستعمل اللفظ فيه. فالحقيقة أو المجاز هي من عوارض الألفاظ في اصطلاح أهل الأصول، وقد يجعلونه من عوارض المعاني لكن الأول أشهر، وهذه الأسماء والصفات لم توضع لخصائص المخلوقين عند الإطلاق، ولا عند الإضافة إلى اللّه ـ تعالى ـ ولكن عند الإضافة إليهم. فاسم العلم يستعمل مطلقًا، ويستعمل مضافًا إلى العبد، كقوله: وإذا قيل: العلم مطلقًا أمكن تقسيمه، فيقال: العلم ينقسم إلى العلم القديم والعلم المحدَث، فلفظ العلم عام فيهما، متناول لهما بطريق الحقيقة، وكذلك إذا / قيل: الوجود ينقسم إلى قديم ومُحدَث وواجب وممكن، وكذلك إذا قيل في الاستواء: ينقسم إلى استواء الخالق واستواء المخلوق، وكذلك إذا قيل: الإرادة والرحمة والمحبة تنقسم إلى إرادة اللّه ومحبته ورحمته، وإردة العبد ومحبته ورحمته. فمن ظن أن [الحقيقة] إنما تتناول صفة العبد المخلوقة المحدثة دون صفة الخالق، كان في غاية الجهل؛ فإن صفة اللّه أكمل وأتم وأحق بهذه الأسماء الحسنى، فلا نسبة بين صفة العبد وصفة الرب، كما لا نسبة بين ذاته وذاته، فكيف يكون العبد مستحقًا للأسماء الحسنى حقيقة، فيستحق أن يقال له: عالم قادر سميع بصير، والرب لا يستحق ذلك إلا مجازًا؟! ومعلوم أن كل كمال حصل للمخلوق فهو من الرب ـ سبحانه وتعالى ـ وله المثل الأعلى، فكل كمال حصل للمخلوق فالخالق أحق به، وكل نقص تنزه عنه المخلوق فالخالق أحق أن ينزه عنه؛ ولهذا كان للّه [المثل الأعلى]، فإنه لا يقاس بخلقه ولا يمثل بهم، ولا تضرب له الأمثال. فلا يشترك هو والمخلوق في قياس تمثيل بمثل؛ ولا في قياس شمول تستوي أفراده، بل ومن الناس من يسمى هذه الأسماء [المشككة]؛ لكون المعنى في أحد المحلين أكمل منه في الآخر، فإن الوجود بالواجب أحق منه بالممكن، والبياض بالثلج أحق منه بالعاج، وأسماؤه وصفاته من هذا الباب؛ فإن اللّه ـ تعالى ـ يوصف بها على/ وجه لا يماثل أحدًا من المخلوقين وإن كان بين كل قسمين قدرٌ مشترك، وذلك القدر المشترك هو مسمى اللفظ عند الإطلاق، فإذا قيد بأحد المحلين تقيد به. فإذا قيل: وجود وماهية وذات، كان هذا الاسم متناولًا للخالق والمخلوق، وإن كان الخالق أحق به من المخلوق، وهو حقيقة فيهما. فإذا قيل: وجود اللّه وماهيته وذاته اختص هذا باللّه، ولم يبق للمخلوق دخول في هذا المسمى، وكان حقيقة للّه وحده. وكذلك إذا قيل: وجود المخلوق وذاته اختص ذلك بالمخلوق وكان حقيقة للمخلوق. فإذا قيل: وجود العبد وماهيته وحقيقته لم يدخل الخالق في هذا المسمى، وكان حقيقة للمخلوق وحده. والجاهل يظن أن اسم الحقيقة إنما يتناول المخلوق وحده، وهذا ضلال معلوم الفساد بالضرورة في [العقول] و[الشرائع] و[اللغات]، فإنه من المعلوم بالضرورة أن بين كل موجودين قدرًا مشتركًا وقدرًا مميزًا، والدال على ما به الاشتراك وحده لا يستلزم ما به الامتياز، ومعلوم بالضرورة من دين المسلمين أن اللّه مستحق للأسماء الحسنى، وقد سمى بعض عباده ببعض تلك الأسماء، كما سمى العبد سميعًا بصيرًا، وحيًا وعليمًا، وحكيمًا، ورءوفا رحيمًا، وملكًا، وعزيزًا، ومؤمنًا ، وكريمًا، وغير ذلك. مع العلم بأن الاتفاق في الاسم لا يوجب مماثلة الخالق بالمخلوق، وإنما يوجب الدلالة على أن بين المسميين قدرًا مشتركًا فقط، مع أن المميز الفارق أعظم من المشترك الجامع. /وأما [اللغات] فإن جميع أهل اللغات ـ من العرب والروم، والفرس، والترك، والبربر، وغيرهم ـ يقع مثل هذا في لغاتهم، وهو حقيقة في لغات جميع الأمم، بل يعلمون أن اللّه أحق بأن يكون قادرًا فاعلًا من العبد، وأن استحقاق اسم الرب القادر له حقيقة أعظم من استحقاق العبد لذلك، وكذلك غيره من الأسماء الحسنى. وقول الناس: إن بين المسميين قدرًا مشتركًا، لا يريدون بأن يكون في الخارج عن الأذهان أمر مشترك بين الخالق والمخلوق؛ فإنه ليس بين مخلوق ومخلوق في الخارج شيء مشترك بينهما، فكيف بين الخالق والمخلوق، وإنما توهم هذا من توهمه من أهل [المنطق اليوناني] ومن اتبعهم، حتى ظنوا أن في الخارج ماهيات مطلقة مشتركة بين الأعيان المحسوسة، ثم منهم من يجردها عن الأعيان كأفلاطون، ومنهم من يقول:لا تنفك عن الأعيان كأرسطو، وابن سينا، وأشباههما. وقد بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع، وبينا ما دخل على من اتبعهم من الضلال في هذا الموضع في [المنطق والإلهيات]، حتى إن طوائف من النظار قالوا: إنا إذا قلنا: إن وجود الرب عين ماهيته ـ كما هو قول أهل الإثبات، ومتكلمة أهل الصفات: كابن كلاب، والأشعري وغيرهما ـ يلزم من ذلك أن يكون لفظ [الوجود] مقولًا عليهما بالإشتراك اللفظي، كما ذكره أبو عبد اللّّه الرازي عن الأشعري، وأبي الحسين البصري وغيرهم؛ وليس هذا مذهبهم، / بل مذهبهم: أن لفظ [الوجود] مقول بالتواطؤ، وأنه ينقسم إلى قديم ومُحدَث، مع قولهم: إن وجود الرب عين ماهيته، فإن لفظ الوجود عندهم كلفظ الماهية. وكما أن الماهية والذات تنقسم إلى قديمة ومحدثة، وماهـية الـرب عـين ذاتـه، فكـذلك الوجود ينقسم إلى قديم ومحدث، ووجود الرب عين ذاته، ووجود العبد عين ذاته، وذات الشيء هي ماهيته. فاللفظ من الألفاظ المتواطئة، ولكن بالإضافة يخص أحد المسميين، والمسميان إذا اشتركا في مسمى الوجود والذات والماهية، لم يكن بينهما في الخارج أمر مشترك يكون زائدًا على خصوصية كل واحد، كما يظنه أرسطو، وابن سينا، والرازي، وأمثالهم، بل ليس في الخارج وجود مطلق، ولا ماهية مطلقة، ولا ذات مطلقة. أما المطلق بشرط الإطلاق فقد اتفق هؤلاء وغيرهم على أنه ليس بموجود في الخارج، وأن على تقدير ثبوته عن أفلاطون وأتباعه، هو قول باطل ضرورة. وأما المطلق لا بشرط، فقد يظن أنه في الخارج وأنه جزء من المعين، وهذا غلط، بل ليس في الخارج إلا المعينات، وليس في الخارج مطلق يكون جزء معين، لكن هؤلاء يريدون بالجزء ما هو صفة ذاتية للموصوف؛ بناء على أن/ الموصوف مركب من تلك الصفات التي يسمونها الأجزاء الذاتية. كما يقولون: الإنسان مركب من الحيوان والناطق؛ أو من الحيوانية والناطقية، وهذا التركيب تركيب ذهني؛ فالماهية المركبة في الذهن مركبة من هذه الأمور وهي أجزاء تلك الماهية. وأما الحقيقة الموجودة في الخارج فهي موصوفة بهذه الصفات، ولكن كثيرًا من هؤلاء اشتبه عليه الوجود الذهني بالخارجي، وهذا الغلط وقع كثيرًا في أقوال المتفلسفة، فأوائلهم كأصحاب فيثاغورس كانوا يقولون بوجود أعداد مجردة عن المعدودات في الخارج، وأصحاب أفلاطون يقولون: بوجود المثل الأفلاطونية، وهي الحقائق المطلقة عن المعينات في الخارج. وهذه الحقائق مقارنة للمعينات في الخارج كما أثبتوا جواهر عقلية، وهي المجردات: كالمادة، والهيولى؛ والعقول والنفوس على قول بعضهم. ومن هذا الباب تفريقهم بين الصفات الذاتية المتقدمة للماهية، التي تتركب منها الأنواع ويسمونها الأجناس والفصول، وبين الصفات العارضة اللازمة للماهية التي يسمونها خواصًا وأعراضًا عامة. وهذه الخمسة هي الكليات؛ وهي الجنس، والفصل، والنوع، والعرض العام، والخاصة، وقد وقع بسبب ذلك من الغلط في [منطقهم] وفي [الإلهيات] ما ضل به كثير من الخلق، وقد نبهنا على ذلك في غير هذا الموضع بما لا يتسع له هذا الموضع؛ ولهذا كان لفظ المركب / عندهم يقال على خمسة معان: على المركب من الوجود والماهية، والمركب من الذات والصفات، والمركب من الخاص والعام، والمركب من المادة والصورة، والقائلون بالجوهر الفرد يثبتون التركيب من الجواهر المفردة. والمحققون من أهل العلم يعلمون أن تسمية مثل هذه المعاني تركيبًا أمر اصطلاحي، وهو إما أمر ذهني لا وجود له في الخارج، وإما أن يعود إلى صفات متعددة قائمة بالموصوف، وهذا حق. فإن مذهب أهل السنة والجماعة: إثبات الصفات للّه ـ تعالى ـ بل صفات الكمال لازمة لذاته، يمتنع ثبوت ذاته بدون صفات الكمال اللازمة له، بل يمتنع تحقق ذات من الذوات عَرِيَّة عن جميع الصفات، وهذا كله مبسوط في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أنه إذا قيل:هذا إنسان، فالمشار إليه بهذا المسمى بإنسان، وليس الإنسان المطلق جزءًا من هذا، وليس الإنسان هنا إلا مقيدًا وإنما يوجد مطلقًا في الذهن؛ لا في الخارج. وإذا قيل هذا في الإنسانية فالمعنى: أن بينهما تشابها فيها؛ لا أن هناك شيئًا موجودًا في الأعيان يشتركان فيه. فليتدبر اللبيب هذا، فإنه يحل شبهات كثيرة، ومن فهم هذا الموضع تبين له غلط من جعل هذه الأسماء مقولة بالاشتراك اللفظي لا المعنوي، وغلط من جعل أسماء اللّه ـ تعالى ـ أعلامًا محضة لا تدل على معان، ومن زعم أن في الخارج /حقائق مطلقة يشترك فيها الأعيان، وعلم أن ما يستحق الرب لنفسه لا يشركه فيه غيره بوجه من الوجوه، ولا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من الصفات. وأما المخلوق فقد يماثله غيره في صفاته، لكن لا يشركه في غير ما يستحقه منها، والأسماء المتواطئة المقولة على هذا وهذا حقيقة في هذا وهذا؛ فإذا كانت عامة لهما تناولتهما، وإن كانت مطلقة لم يمنع تصورهما من اشتراكهما فيها، وإن كانت مقيدة اختصت بمحلها. فإذا قال: وجود اللّه، وذات اللّه، وعلم اللّه، وقدرة اللّه، وسمع اللّه، وبصر اللّه، وأرادة اللّه، وكلام اللّه، ورحمة اللّه، وغضب اللّه واستواء اللّه، ونزول اللّه، ومحبة اللّه، وإرادة الله ونحو ذلك، كانت هذه الأسماء كلها حقيقة للّه ـ تعالى ـ من غير أن يدخل فيها شيء من المخلوقات، ومن غير أن يماثله فيها شيء من المخلوقات. وإذا قال: وجود العبد وذاته، وماهيته، وعلمه، وقدرته، وسمعه، وبصره، وكلامه، واستواؤه، ونزوله، كان هذا حقيقة للعبد مختصة به، من غير أن تماثل صفات اللّه ـ تعالى. بل أبلغ من ذلك أن اللّه أخبر أن في الجنة من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح، ما ذكره في كتابه، كما أخبر أن فيها لبنا، وعسلًا، وخمرًا، ولحمًا، وحريرًا، وذهبًا، وفضة، وحورًا، وقصورًا، ونحو ذلك، وقد قال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء. /فتلك الحقائق التي في الآخرة ليست مماثلة لهذه الحقائق التي في الدنيا، وإن كانت مشابهة لها من بعض الوجوه، والاسم يتناولها حقيقة، ومعلوم أن الخالق أبعد عن مشابهة المخلوق، فكيف يجوز أن يظن أن فيما أثبته اللّه ـ تعالى ـ من أسمائه وصفاته مماثلا لمخلوقاته؟ وأن يقال: ليس ذلك بحقيقة، وهل يكون أحق بهذه الأسماء الحسنى والصفات العليا من رب السموات والأرض؟! مع أن مباينته للمخلوقات أعظم من مباينة كل مخلوق. والجاهل يضل بقول المتكلمين:إن العرب وضعوا لفظ الاستواء لاستواء الإنسان على المنزل أو الفلك، أو استواء السفينة على الجودي، ونحو ذلك من استواء بعض المخلوقات، فهذا كما يقول القائل: إنما وضعوا لفظ السمع والبصر والكلام لما يكون محله حدقة وأجفانا وأصمخة وأذنًا وشفتين، وهذا ضلال في الشرع وكذب، وإنما وضعوا لفظ الرحمة والعلم والإرادة لما يكون محله مضغة لحم وفؤاد، وهذا كله جهل منه. فإن العرب إنما وضعت للإنسان ما أضافته إليه، فإذا قالت: سمع العبد، وبصره، وكلامه، وعلمه، وإرادته، ورحمته، فما يخص به يتناول ذلك خصائص العبد. وإذا قيل: سمع اللّه وبصره، وكلامه وعلمه، وإرادته ورحمته، كان هذا متناولًا لما يخص به الرب، لا يدخل في ذلك شيء من خصائص المخلوقين، فمن ظن أن هذا الاستواء إذا كان حقيقة يتناول شيئًا من صفات المخلوقين مع كون النص قد خصه باللّه، كان جاهلًا جدًا بدلالات اللغات، ومعرفة الحقيقة والمجاز. /وهؤلاء الجهال يمثلون في ابتداء فهمهم صفات الخالق بصفات المخلوق، ثم ينفون ذلك ويعطلونه، فلا يفهمون من ذلك إلا ما يختص بالمخلوق، وينفون مضمون ذلك، ويكونون قد جحدوا ما يستحقه الرب من خصائصه وصفاته، وألحدوا في أسماء اللّه وآياته، وخرجوا عن القياس العقلي والنص الشرعي، فلا يبقى بأيديهم لا معقول صريح ولا منقول صحيح، ثم لابد لهم من إثبات بعض ما يثبته أهل الإثبات من الأسماء والصفات. فإذا أثبتوا البعض ونفوا البعض قيل لهم: ما الفرق بين ما أثبتموه ونفيتموه؟ ولم كان هذا حقيقة ولم يكن هذا حقيقة؟ لم يكن لهم جواب أصلا، وظهر بذلك جهلهم وضلالهم شرعًا وقدرًا. وقد تدبرت كلام عامة من ينفي شيئًا مما أثبته الرسل من الأسماء والصفات، فوجدتهم كلهم متناقضين؛ فإنهم يحتجون لما نفوه بنظير ما يحتج به النافي لما أثبتوه، فيلزمهم إما إثبات الأمرين وإما نفيهما، فإذا نفوهما فلا بد لهم أن يقولوا بالواجب الوجود وعدمه جميعًا. وهذا نهاية هؤلاء النفاة الملاحدة الغلاة من القرامطة وغلاة المتفلسفة، فإنهم إذا أخذوا ينفون النقيضين جميعًا، فالنقيضان كما أنهما لا يجتمعان، فلا يرتفعان. ومن جهة أن ما يسلبون عنه النقيضين لابد أن يتصوروه وأن يعبروا عنه؛ فإن التصديق مسبوق بالتصور، ومتى تصوروه وعبروا عنه كقولهم: الثابت والواجب أو أي شيء قالوه، لزمهم فيه من إثبات القدر المشترك نظير ما يلزمهم فيما نفوه، /ولا يمكن أن يتصور شيء من ذلك مع قولهم: أسماء اللّه مقولة بالاشتراك اللفظي فقط. فإن المشتركين اشتراكًا لفظيًا لا معنويًا كلفظ [المشتري] المقول على الكوكب والمبتاع، وسهيل المقول على الكوكب وعلى ابن عمرو، فإنه إذا سمع المستمع قائلًا يقول له: جاءني سهيل بن عمرو، وهذا هو المشتري لهذه السلعة، لم يفهم من هذا اللفظ كوكبًا أصلًا، إلا أن يعرف أن اللفظ موضوع له، فإذا لم تكن أسماؤه متواطئة لم يفهم العباد من أسمائه شيئًا أصلًا، إلا أن يعرفوا ما يخص ذاته، وهم لم يعرفوا ما يخص ذاته، فلم يعرفوا شيئًا. ثم إن العلم بانقسام الوجود إلى قديم ومحدث وأمثال ذلك علم ضروري، فالقادح سوفسطائي. وكذلك العلم بأن بين الاسمين قدرًا مشتركًا علم ضروري. وإذا قيل: إن اللفظ حقيقة فيهما، لم يحتج ذلك إلى أن يكون أهل اللغة قد تكلموا باللفظ مطلقًا، فعبروا عن المعنى المطلق المشترك؛ فإن المعاني التي لا تكون إلا مضافة إلى غيرها: كالحياة والعلم، والقدرة والاستواء؛ بل واليد وغير ذلك مما لا يكون إلا صفة قائمة بغيره أو جسما قائمًا بغيره بحيث لا يوجد في الخارج مجردًا عن محله. ولكن أهل النظر لما أرادوا تجريد المعاني الكلية المطلقة عبروا عنها بالألفاظ الكلية المطلقة، وأهل اللغة في ابتداء خطابهم يقولون ـ مثلا ـ: جاء زيد، وهذا وجه زيد؛ ويشيرون إلى ما قام به من المجيء والوجه، فيفهم المخاطب ذلك. /ثم يقولون تارة أخرى: جاء عمرو، ورأيت وجه عمرو، وجاء الفرس، ورأيت وجه الفرس، فيفهم المستمع أن بين هذه قدرًا مشتركًا وقدرًا مميزًا، وأن لعمرو مجيئًا ووجهًا نسبته إليه كنسبة مجىء زيد ووجهه إليه، فإذا علم أن عمرًا مثل زيد، علم أن مجيئه، مثل مجيئه، ووجهه مثل وجهه، وإن علم أن الفرس ليست مثل زيد بل تشابهه من بعض الوجوه، علم أن مجيئها ووجهها ليس مجيء زيد ووجهه، بل تشبهه في بعض الوجوه. وكذلك إذا قيل: جاءت الملائكة ورأت الأنبياء وجوه الملائكة، علم أن للملائكة مجيئًا ووجوهًا نسبتها إليها كنسبة مجيء الإنسان ووجهه إليه، ثم معرفته بحقيقة ذلك تبع معرفته بحقيقة الملائكة؛ فإن كان لا يعرف الملائكة إلا من جهة الجملة ولا يتصور كيفيتهم، كان ذلك في مجيئهم ووجوههم لا يعرفها إلا من حيث الجملة ولا يتصور كيفيتها. وكذلك إذا قيل: جاءت الجن، فاللفظ في جميع هذه المواضع يدل على معانيها بطريق الحقيقة، بل إذا قيل: حقيقة الملك وماهيته ليست مثل حقيقة الجني وماهيته كان لفظ الحقيقة والماهية مستعملًا فيهما على سبيل الحقيقة، وكان من الأسماء المتواطئة، مع أن المسميات قد صرح فيها بنفي التماثل. وكذلك إذا قيل: خمر الدنيا ليس كمثل خمر الآخرة، ولا ذهبها مثل ذهبها، ولا لبنها مثل لبنها، ولا / عسلها مثل عسلها، كان قد صرح في ذلك بنفي التماثل، مع أن الاسم مستعمل فيها على سبيل الحقيقة. ونظائر هذا كثيرة؛ فإنه لو قال القائل: هذا المخلوق ما هو مثل هذا المخلوق، وهذا الحيوان الذي هو الناطق ليس مثل الحيوان الذي هو الصامت، أو هذا اللون الذي هو الأبيض ليس مثل الأسود، أو الموجود الذي هو الخالق ليس هو مثل الموجود الذي هو المخلوق، ونحو ذلك ـ كانت هذه الأسماء مستعملة على سبيل الحقيقة في المسميين اللذين صرح بنفي التماثل بينهما، فالأسماء المتواطئة إنما تقتضي أن يكون بين المسميين قدرًا مشتركًا، وإن كان المسميان مختلفين أو متضادين. فمن ظن أن أسماء اللّه ـ تعالى ـ وصفاته إذا كانت حقيقة، لزم أن يكون مماثلًا للمخلوقين، وأن صفاته مماثلة لصفاتهم ـ كان من أجهل الناس، وكان أول كلامه سفسطة، وآخره زندقة؛ لأنه يقتضي نفي جميع أسماء اللّه ـ تعالى ـ وصفاته، و هذا هو غاية الزندقة والإلحاد. ومن فرق بين صفة وصفة، مع تساويهما في أسباب الحقيقة والمجاز، كان متناقضًا في قوله، متهافتًا في مذهبه، مشابهًا لمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض. وإذا تأمل اللبيب الفاضل هذه الأمور، تبين له أن مذهب السلف والأئمة /في غاية الاستقامة والسداد، والصحة والاطراد، وأنه مقتضى المعقول الصريح والمنقول الصحيح، وأن من خالفه كان مع تناقض قوله المختلف، الذي يؤفك عنه من أفك، خارجًا عن موجب العقل والسمع، مخالفًا للفطرة والسمع، واللّه يتم نعمته علىنا وعلى سائر إخواننا المسلمين المؤمنين، ويجمع لنا ولهم خير الدنيا والآخرة. وهذا لا تعلق له بصفات اللّه ـ تعالى ـ قال بعضهم: قد قال اللّه تعالى: أحدها: أن هذا إذا دل إنما يدل على نفي أن يكون جسدًا، لا على نفي أن يكون جسمًا، والجسم في اصطلاح هؤلاء ـ نفاة الصفات ـ أعم من الجسد؛ فإن الجسم ينقسم عندهم إلى كثيف ولطيف، بخلاف الجسد. فإن أردت بقولك الجسم اللغوي ـ وهو الذي قال أهل اللغة: إنه هو/ الجسد ـ قيل لك: لا يلزم من إثبات الاستواء على العرش أن يكون جسدًا، وهو الجسم اللغوي. فإنا نعلم بالضرورة أن الهواء يعلو على الأرض وليس هو بجسد، والجسد هو الجسم اللغوي. فقول القائل: لو كان مستويًا على العرش لكان جسمًا، والجسم هوالجسد، والجسد منتف بالشرع ـ كلام ملبس. فإنه إن عنى بالجسم الجسد، كانت المقدمة الأولى ممنوعة؛ فإن عاقلًا لا يقول:إنه لو كان فوق العرش لكان جسدًا، ولا يقول عاقل: إنه لو كان له علم وقدرة، لكان جسدًا. ولا يقول عاقل: إنه لو كان يرى ويتكلم لكان جسدًا وبدنًا. فإن الملائكة لهم علم وقدرة وترى وتتكلم، وكذلك الجن، وكذلك الهواء يعلو على غيره وليس بجسد. وإن عنى بالجسم ما يعنيه أهل الكلام؛ من أنه الذي يشار إليه، وجعلوا كل ما يشار إليه جسمًا، وكل ما يرى جسمًا أو كل ما يمكن أنه يرى أو يوصف بالصفات فهو جسم، أو كل ما يعلو على غيره ويكون فوقه فهو جسم فيقال له: فالجسد والجسم بهذا التفسير الكلامي ليس هو جسدًا في لغة العرب، بل هو منقسم إلى غليظ ورقيق، إلى ما هو جسد وإلى ما ليس بجسد. / ولذا يقول الفقهاء: النجاسة إن كانت متجسدة كالميتة فحكمها كذا، وإن كانت غير متجسدة كالبول فحكمها كذا. وإذا قدر أن الدليل دل على أنه ليس بجسد لم يلزم ألا يكون جسمًا بهذا الاصطلاح؛ لأن الجسم أعم عندهم من الجسد، ولا يلزم من نفي الخاص نفي العام؛ كما إذا قلت: ليس هو بإنسان، فإنه لا يلزم أنه ليس بحيوان. فلفظ الجسم فيه اشتراك بين معناه في اللغة ومعناه في عرف أهل الكلام؛ فإذا كان معناه في اللغة هو معنى الجسد ـ وهذا منتف بما ذكر من الدليل ـ بطل قول من نفي الاستواء بالذات؛ أو غيره من الصفات، بأنه لو كان موصوفًا بذلك لكان جسمًا، فإن التلازم حينئذ منتف، فإحدى المقدمتين باطلة؛ إما الأولى وإما الثانية. ونظير هذا أن يقول: لو كان له علم وقدرة لكان محلًا للأعراض، وما كان محلا للأعراض فهو محل الآفات والعيوب، فلا يكون قدوسا،ولا سلامًا؛لأن أهل اللغة قالوا: العَرَض بالتحريك ما يعرض للإنسان من مرض ونحوه، فلو جاز أن تقوم به هذه لكان ـ تعالى وتقدس ـ معيبًا ناقصًا، وهو ـ سبحانه ـ مقدس عن ذلك؛ إذ هو السلام القدوس. فيقال: لفظ العَرَض مشترك بين ما ذكر من معناه في اللغة، وبين معناه في عرف أهل الكلام، فإن معناه ـ عند من يسمى العلم والقدرة / مطلقًا عرضًا ـ: ما قام بغيره كالحياة، والعلم، والقدرة والحركة، والسكون ونحو ذلك. وآخرون يقولون: هو ما لا يبقى زمانين. ويقولون: إن صفات الخالق باقية، بخلاف ما يقوم بالمخلوقات من الصفات، فإنها لا تبقى زمانين. والمقصود هنا: أنه إذا قال: لو قام به العلم والقدرة لكان عرضًا، وما قام به العرض قامت به الآفات، كلام فيه تلبيس، فإن إحدى المقدمتين باطلة. فإن لفظ العَرَض إن فسر بالصفة، فالمقدمة الثانية باطلة، وإن فسر بما يعرض للإنسان من المرض ونحوه، فالمقدمة الأولى باطلة. ونظير ذلك أن يقول: لو كان قد استوى على العرش لكان قد أحدث حدثًا، وقامت به الحوادث؛ لأن الاستواء فعل حادث ـ كان بعد أن لم يكن ـ فلو قام به الاستواء لقامت به الحوادث، ومن قامت به الحوادث فقد أحدث حدثًا، واللّه ـ تعالى ـ منزه عن ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن اللّه من أحدث حدثًا، أو آوى محدثا) ولقوله: (وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة). فإنه يقال له: الحادث في اللغة ما كان بعد أن لم يكن، واللّه ـ تعالى ـ يفعل ما يشاء؛ فما من فعل يفعله إلا وقد حدث بعد أن لم يكن. /وأما المحدثات التى ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، فهي المحدثات في الدين، وهو أن يحدث الرجل بدعة في الدين لم يشرعها اللّه، والإحداث في الدين مذموم من العباد، واللّه يحدث ما يشاء لا معقب لحكمه. فاللفظ المشتبه المجمل إذا خص في الاستدلال وقع فيه الضلال والإضلال. وقد قيل: إن أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء. الوجه الثاني ـ في بيان بطلان ما ذكر من الاستدلال: أن يقال ـ: إن اللّه ـ سبحانه ـ منزه أن يكون من جنس شيء من المخلوقات: لا أجساد الآدميين، ولا أرواحهم، ولا غير ذلك من المخلوقات؛ فإنه لو كان من جنس شيء من ذلك بحيث تكون حقيقته كحقيقته، للزم أن يجوز على كل منهما ما يجوز على الآخر، ويجب له ما يجب له، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، وهذا ممتنع؛ لأنه يستلزم أن يكون القديم الواجب الوجود بنفسه، غير قديم واجب الوجود بنفسه، وأن يكون المخلوق الذي يمتنع غناه غنيًا يمتنع افتقاره إلى الخالق، وأمثال ذلك من الأُمور المتناقضة، واللّه ـ تعالى ـ نزه نفسه أن يكون له كُفو، ومثل، أو سََمِيٌّ، أو نِدٌّ. فهذه الأدلة الشرعية والعقلية يعلم بها تنزه اللّه ـ تعالى ـ أن يكون من جنس أجساد الآدميين، أو غيرها من المخلوقات، لكن المستدل على ذلك بقوله:/ وما أريـق على الأصـنام مـن جسد فليس المراد بالجسد في القرآن لا هذا ولا هذا، فليس المراد من العجل أن له بدنًا مثل بدن الآدميين، ولا بدنًا كأبدان البقر، فإن العجل لم يكن كذلك، والعرب تقول: جسد به الدم يجسد جسدًا: إذا لصق به، فهو جاسد وجسد. قال الشاعر: ساعد به جسد مورس ** من الدماء مائع ويبــس والجسد الأحمر والمجسد ما أشبع صبغه من الثياب؛ لكمال ما لصق به من الصبغ، فاللفظ فيه معنى التكاثف والتلاصق؛ولهذا يقول الفقهاء: نجاسة متجسدة وغير متجسدة، وهو في القرآن يراد به الجسد المصمت المتلاصق المتكاثف، أو الذي لا حياة فيه. وقد ذكر اللّه ـ تعالى ـ لفظة الجسد في أربعة مواضع، فقال تعالى: والمقصود: أنّ ما أخرجه كان جسدًا مصمتًا لا روح فيه حتى تبين نقصه، وأنه كان مسلوب الحياة والحركة. وقد روى أنه إنما خارخورة واحدة، وقد يقال: إن أريد بالجسد المصمت أو الغليظ ونحوه، فلم قيل: إن ذلك ذكر لبيان نقصه من هذا الوجه، بل من هذا الوجه ضلوا به، وإنما كان النقص من جهة ولو أخرج لهم عجلًا كسائر العجول، أو آدميًا كاملًا، أو فرسًا حيًا، أو جملًا أو غير ذلك من الحيوان ـ لكان أيضًا له بدن، ولكان ذلك أعجوبة عظيمة، وكانت الفتنة به أشد، ولكن اللّه ـ سبحانه ـ بين أن المخرج كان موصوفًا بصفات النقص يحقق ذلك. / الوجه الثالث: وهو أنه سبحانه قال: فعلم أن الآية تدل على نقص حجة من يحتج بها، على أن كون الشيء ذا بدن عيبًا ونقصًا، وهذه الحجة نظير احتجاجهم بالأفول، فإنهم غيروا معناه في اللغة، وجعلوه الحركة، فظنوا أن إبراهيم احتج بذلك على كونه ليس رب العالمين، ولو كان كما ذكروه لكان حجة عليهم لا لهم. الوجه الرابع : أن اللّه تعالى وصفه بكونه عجلًا جسدًا له خوار، ثم قال: فالموجب لنقصه إما أن يكون مجموع الصفات أو بعضها، أو كل واحد منها؛ فإن كان المجموع لم يدل على أن نقصها واحدة نقص، وإن كان بعضها فليس كونه جسدًا بأولى من كونه له خوار. وليس هذا وهذا بأولى من كونه مسلوب/ التكلم والقدرة على النفع والضر، وإن كان كل منهما؛ فمعلوم أنهم إنما ضلوا بخواره ونحو ذلك، واللّه ـ تعالى ـ إنما احتج عليهم بعدم التكلم والقدرة على النفع والضر. الوجه الخامس: أنه ليس في القرآن دلالة على أن كونه جسدًا وكونه له خوار صفة نقص، وإنما الذي دل عليه القرآن أن كونه لا يكلمهم ولا يقدر على نفعهم وضرهم نقص، يبين ذلك: أن الخوار هو الصوت والإنسان الذي يصوت، ويقال: خار يخور الثور، وهو يكلم غيره، وقد يهديه السبيل. واللّه ـ سبحانه ـ بين أن صفات العجل ناقصة عن صفات الإنسان، الذي يكلم غيره ويهديه، فالعابد أكمل من المعبود، يبين هذا أنه لو كلمهم لكان أيضًا مصوتًا، فلو كان ذكر الصوت لبيان نقصه لبطل الاستدلال بقوله تعالى: فعلم أن ذكر التصويت لم يكن لكونه صفة نقص، فكذلك ذكر الجسد. وبالجملة، من ذكر أن القرآن دل على هذا وهذا هو العيب الذي عابه به، وجعله دليلًا على نفي إلهيته؛ فقد قال على القرآن ما لا يدل عليه؛ بل هو على نقيضه أدل. / الوجه السادس: أن اللّه ـ تعالى ـ ذكر عن الخليل صلى الله عليه وسلم أنه قال: فلو كان مجرد هذا الاحتجاج كافيًا لذكره إبراهيم الخليل وغيره من الأنبياء ـ عليهم أفضل الصلاة والسلام ـ بل إنما احتجوا بمثل ما احتج اللّه به من نفي صفات الكمال عنها؛ كالتكلم والقدرة، والحركة وغير ذلك. الوجه السابع: أن يقال: ما ذكره اللّه ـ تعالى ـ إما أن يكون دالًا على أن الإله ـ سبحانه ـ موصوف ببعض هذه الصفات؛ وإما ألا يدل. فإن لم يدل بطل ما ذكروه؛ وإن دل فهو يدل على إثبات صفات الكمال للّه تعالى، وهو التكليم للعباد، والسمع والبصر والقدرة، والنفع والضر. وهذا يقتضى أن تكون الآيات دليلًا على إثبات الصفات، لا على نفيها، ونفاة الصفات إنما نفوها لزعمهم أن إثباتها يقتضى التجسيم، والتجسيد. فالآيات التي احتجوا بها هي عليهم لا لهم. وهذا أمر قد وجدناه مطردًا في عامة ما يحتج به نفاة الصفات من الآيات، فإنما تدل على نقيض مطلوبهم، لا على مطلوبهم. / الوجه الثامن: أنه إذا كان كل جسم جسدًا، وكل ما عبد من دون اللّه ـ تعالى ـ من الشمس والقمر، والكواكب والأوثان وغير ذلك، أجسامًا، وهي أجساد، فإن كان اللّه ذكر هذا في العجل لينفي به عنه الإلهية، لزم أن يطرد هذا الدليل في جميع المعبودات. ومعلوم أن اللّه لم يذكر هذا في غير العجل. إنه ذكر كونه جسدًا لبيان سبب افتتانهم به، لا أنه جعل ذلك هو الحجة عليهم، بل احتج عليهم بكونه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلًا. الوجه التاسع: أنه ـ سبحانه ـ قال في الأعراف: أحدهما: أنه وصفهم بهذه النقائص ليبين أن العابد أكمل من المعبود. الثاني: أنه ذكر ذلك لأن المعبود يجب أن يكون موصوفًا بنقيض هذه الصفات، فإن قيل بالقول الأول، أمكن أن يقال بمثله في آية العجل، فلا يكون فيه تعرض لصفات الإله. وإن قيل بالثاني، وجب أن يتصف الرب ـ تعالى ـ بما نفاه عن الأصنام. وحينئذ، فإن كانت هذه الأمور أجسامًا كانت هذه الدلالة معارضة / لما ذكر في تلك الآية، وإن لم تكن أجسامًا بطل نفيهم لها عن اللّه ـ تعالى ـ ووجب أن يوصف اللّه ـ عز وجل ـ بما جاء به الكتاب والسنة، من الأيدي وغيرها، ولا يجب أن تكون أجسامًا، ولا يكون ذلك تجسيمًا، وإذا لم يكن هذا تجسيمًا فإثبات العلو أولى ألا يكون تجسيمًا. فدل على أنه لا يكون تجسيما، فدل على أن الشرع مناقض لما ذكروه. الوجه العاشر: أن يقال: دلالة الكتاب والسنة على إثبات صفات الكمال، وأنه نفسه فوق العرش أعظم من أن تحصر، كقوله: وقد قيل: إن ذلك يبلغ ثلاثمائة آية، وهي دلائل جلية بينة، مفهومة من القرآن، معقولة من كلام اللّه ـ تعالى. فإن كان إثبات هذا يستلزم أن يكون اللّه جسمًا، وجسدًا، لم يمكن دفع موجب هذه النصوص بما ذكر في قصة العجل؛ لأنه ليس فيها أن مجرد كونه جسدًا هو النقص ـ الذي عابه اللّه وجعله مانعًا من إلهيته ـ وإن كان إثبات العلو والصفات لا يستلزم أن يكون جسمًا وجسدًا بطل أصل كلامهم، في ـ أن عمدتهم ـ أن إثبات العلو يقتضي التجسيم والتجسد، فإذا سلموا أنه لا يستلزم التجسيم والتجسد، لم يكن لهم دليل على نفي ذلك. / وحينئذ، فإذا دلت قصة العجل أوغيرها على امتناع كون الرب ـ تعالى ـ جسدًا أو جسمًا، لم يكن بين النصوص منافاة، بل يوصف بأنه نفسه فوق العرش، وينفي عنه ما يجب نفيه عنه ـ سبحانه ـ وتعالى. والمقصود أن الشرع ليس فيه ما يوافق النفاة للعلو وغيره من الصفات بوجه من الوجوه. واللّه ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم.
|